الرَّسْمُ .. بالكَلِماتِ دِراسَةٌ أَدَبِيَّةٌ

دِراسَةٌ أَدَبِيَّة

كأنك جمعت أصفى وأنقى تعابير وكلمات الحب .. والجمال .. والهدوء ، وقمت برصهم أمامك على نُسُقٍ تراه ؛ وبخيالك تصل للوحة .. رَسَمَتْها الحروف .. وشَكَّلَتْها الكلمات .. الأمر بالفعل كالرسم بالكلمات ..
كأنك تحيط بطاقة الحب كلها في جوف يديك ، كأنك تطيق بذراعيك على مساحات القلوب الجميلة من حولك .. كأن صدرك اتسع لهدوء المساحات الشاسعة من حولك ، نظرةُ الطفل تلكَ حين يهم على مياة البحر لأول مرة ويجاهد أن يضم البحر بيديه .. ويجاهد !!

الرسم بالكلمات .. هذا الديوان ، ديوانٌ كانت له في فترة صدوره الصدارة ، وقد كان في زمنه ذا هزة ( أدبية – فكرية ) .. ديوانٌ كان – عن جدارة – يستحدث اللغة ويقلب التصوير فيها من نطاق التشبيه والاستعارة الضيق .. إلى مساحات أوسع من التشبيه الكلي والصور الكلية أضف على هذا التلاعب بحس القارئ .

رغم كون شاعر الديوان " نزار القباني " مثار جدل في كل مكان .. فور ذكر اسمه ، لما كان يثيره من أساليب جديدة للتعامل مع حقوق المرأة .. ولما أثاره في آخر حياته من شُبُهات أثارت حوله الشكوك .. وحملت بعضهم على شطبه اجتماعياً ، إلا أن القارئ المُجيد لشعره بعيداً عن طوق العادات وسوار التقاليد وحق الدين .. يجده حقاً جدَّ شاعر .

ولو أن تعدد الأطعمة كان مطلباًً هاماً لإثارة جميع الأذواق .. فكذلك تعدد الأغراض في شعر نزار كان له هذا التأثير في انتشار حرفه هنا وهناك ، وفي فترة لم تكن فيه سوريا ذات صيت سياسي كما يحب أهلها ، وبعيد عن السياسة – وقد كان دبلوماسياً مرموقاً - كان يتلمس نزار الشاب قلوب أبناء جيله .. بأبياته التي اقتحم بها أغراض التحريض وأغراض الغزل اللذان أثّرا كثيراً في نفس الشاب والشابة ، ورؤيته هذه أثقلت كواهل العديد من الأهالي .. بعد ما أثار شعره جدل أبناءهم – مُغْمضي الجِفن – وبناتهن – مُغْمضي الحُسن - ، وكان هذا الإعصار النزاري يشكل بالفعل تهديداً للكثير من العقول الشابة – في نظر الأكبر منهم سناً - حتى أتى بقصيدته " خبز وحشيش وقمر " .. والتي اتهم لأجلها - لا تحديداً - بالزندقة ...

كان يتيهُ في أول الطريق .. أحب كثيراً .. وطال ذراعُ شعرِهِ أكثرَ مما كان له .. وتخيلَ .. وعاشَ في حُلُمه .. وتاه في آخر الطريق ، وهي رؤية الكثيرين ، ولستُ أنسى ذكر مُشَعْوذاته وسَكَرات حياته التي فطنها القليلون وأثارت الكثير والكثير من الجدل .. كحوارات النهود والقصائد الشريرة والمجرداتِ في شعره !!!

في مجال الأدب – بفرض خاص – تجده في آخر حياته بعدما اعتزل دُوَلَ العرب .. انتقص حق الشعر في قلمه .. فانتقصَ الشعرُ حقَّهُ ، وتجده في آخر حياته يلملم أوراقه ، ويقبع في إزاره يضم ذكرياته في كتاب يُقْرَأُ في جزئين .. ويودِعُهُ قبل أن يُوَدِّعَهُ في عام تسعةٍ وثمانينَ وتسعمائةٍ وألف ( 1989 م ) .. ورغم هذا رآه بعض الكُتاب الآخرين مبدعاً من أول ديوانٍ له " قالت لِيَ السمراء " وحتى أعماله النثرية الرمزية الأخيرة وأشغاله في الشعر الحر المتحرر من الوزن .. التي لم تلقى إلا الأعين مرآةً لها ومرأى !!!

أعظم كتاباته برؤية النُّقّاد كانت " المهرولون " و " متى يعلنون وفاة العرب " الممنوعتان ، لرؤية الانتفاضة الشعرية الجديدة فيهما ، وكذلك قصيدة " أطفال الحجارة " ، أما ومن جوانبَ أخرى غير الجانب السياسي .. يبزغ إبداع نزار الشعري في قصائد عدة .. رأيتُ أَخْيَرَها :
إختاري .. رسالة من تحت الماء .. قصيدة الحزن .. قارئة الفنجان .. الرسم بالكلمات .. القصيدة المتوحشة .. غرناطة .. خبز وحشيش وقمر ، واللائي جُمِعْنَ في ديوان " أحلى قصائدي " كما رأى هو مع بضع قصائد أخرى .

وله إبداعاته التي تَطَلَّعَ لها الشعراء الآخرين كأمثلةٍ لتعبير كلٍّ منهم عن تراثه وعرقه .. كالقصيدة الدمشقية وغيرها ..

وعودةً إلى ديوانِهِ فلم أجد " شاعراً " يُقَدِّمُ لديوانِهِ أو يهدي بأول ديوانِهِ كما كان يهدي نزار :

عِشرونَ عاماً فوقَ دربِ الهوى
ولا يَزالُ الدربُ مَجْهـولا

فَمَرَّةً كُنْـتُ أنا قاتـلاً ..
وَأَكْثَرُ المرّاتِ مَقْتولا

عِشْرونُ عاماً .. يا كِتابَ الهوى
وَلَمْ أَزَلْ في الصَّفْحَةَ الأولى !!

هُنا .. سنأخُذُ الديوانَ بشيٍ مِنَ النقد والدراسة

وهُناكَ سنستمِعُ فنستمتعُ بصوتِ القصائد وصُوَرِها

وهنالِكَ .. لِمَن يحب مشاركتي .. ويحبذ أولاً تحميل الديوان